قصة قصيرة واقعية أمنية لم تتحقق

هناك … في ذلك الريف البعيد الذي نأى بنفسه عن صخب وضوضاء المدينة، حيث الشمس تشرق فتشرق معها الحياة.

بدأت قصتي، في أرجاء مدرستي، حيث عرفت البهجة والابتسامة، عرفت القلوب الصافية والنفوس البريئة، أحببت عملي وأحببت طالباتي، رسمت أحلامًا عانقت قمم الجبال، وآمالاً لمستقبل تحلم به الأجيال.

عاهدت نفسي على النهوض بالعلم في ذاك المكان البعيد، والوقوف بوجه التحديات بهمة من حديد، فالعادات تفرض على الفتاة البقاء في المنزل، والمأساة عندما تتزوج الطفلة وهي للعبتها تحمل.

ومضت الأيام، وفي كل يوم يزداد عندي الإقدام، أعامل طالباتي باهتمام، وهم يبادلوني الحب والاحترام، كيف لا؟ وقد سلكت منهج التحفيز، تارة بالكلمات وتارة بالضحكات وتارة بالهدايا والمكافآت، كي يكون العلم عندهم من الأساسيات.

كنت أسمع باستمرار عن زواج القاصرات، وأراه ضربًا من الحكايات، فكيف لعاقل أن يجني على ابنته ويقبل لها بهذه المأساة، لكن حجتهم جاهزة (الزواج سترة) وكأن البنت فضيحة وبحاجة إلى تغطية، فربما تُزوج البنت وهي بالمرحلة الابتدائية، وكم عمر الزوج يا ترى؟ وهل هو قادر على تحمّل المسؤولية؟!

ولم أتوقع في يوم من الأيام، أن أرى هذا الشيء ولا حتى في المنام. وبدأت أراقب الطالبة حياة، فهي لم تكن ككل الفتيات، أوليتها اهتمامًا زائدًا، لمّا رأيت نبوغها وذكاءها، وطلبها للعلم وإقبالها، فلفتني تميزها، وأعجبني طموحها.

أرادت أن تكون معلمة، وكانت بأمنيتها ملتزمة، كنت أرى فيها نفسي، وأقدم لها كل ما بوسعي، أرى في عينيها طموحًا براقًا، وفي سكونها ماءًا رقراقًا، وفي نشاطها ماءًا دفّاقًا، وفي كل يوم تزداد حياة تألقًا، وأزداد بها تعلقًا، كأنها من لحمي ودمي، أو أنها ابنتي بالتبني.

فجاءتني يومًا إلى المدرسة مودعة، تريد أن تزف لي خبر خطبتها وهي مستنكرة، فلم أعلم ما أجيب، أأقدم التهاني؟ أم أبدأ بالنحيب؟، كيف لا؟ وهي طالبتي المفضلة.

فسألتها باهتمام: هل تريدي فعلاً أن تتزوجي أم أنك مجبرة؟

فقالت لي: لا أعرف، لم يسألني أحد، فقط أخبروني أن خطبتي يوم الأحد.

قلت لها: إذن أنت غير موافقة؟

أجابت: لا أعرف.

فسألتها مجددًا: هل تحبي أن تكملي دراستك.

فأجابت (وقد لمعت عيناها فرحًا): نعم.

قلت لها: هل تحبي أن أكلم والدك في الأمر.

قالت: لا، فقلت: لم لا؟ أجابت: فربما يضربك والدي.

قلت لها: يضربني؟! لا تخافي لن يضربني.

قالت: ولكن هكذا يفعل مع أمي عندما تدافع عني.

عرفت حينها القصة، وشعرت في حلقي بغصة، وأيقنت أن الأمر محسوم، فقلت لها: متى ستنقطعين عن المدرسة؟

فأجابت: سآتي إلى أن يحين موعد زفافي.

تبسمت ابتسامة يائسة، وتابعت طريقي وأنا عابسة. مرت الأيام، وحصل ما لم يكن في الحسبان، عندما لاحت في الأفق غمامة الآهات، حاملة لنا كل الهموم والحسرات، بدأت تلك الحرب الطاحنة، وطحنت رحاها كل آمالنا وأحلامنا القادمة، إلا أنني عن المدرسة لم أنقطع، في حين بدأت أعداد الطالبات بالتناقص شيئًا فشيئًا خوفًا من الحرب.

وفي يوم من ذات الأيام، وبينما كنت منهمكة بإعطاء الدرس، سمعنا صوتًا دوّى في أرجاء المكان، فحل الخوف والهلع في الجنان، وبدأ الصراخ يعلو، وسرت العدوى وصارت الدموع ملأ الأجفان.

ارتبكت لثانية، ثم جمعت شتات أفكاري المترامية، وبدأت أهدّأ من روعهم، وأحاول لفت انتباههم، فخطر ببالي سؤال، وطرحته عليهم في الحال: هل تخافون من الموت؟

فأجابت حياة بصوت مرتجف: لا أخاف من الموت ولكن أريد أن أموت في حضن أمي.

صدمني ذاك الجواب، ولم يكن عندي له جواب، تأثرت بكلماتها، فقد وضعت يدها على الجرح، وكان ذاك اليوم هو آخر يوم أرى فيه حياة، لقرب موعد زفافها وانشغالها بالتحضيرات.

وأخذت الأمور تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، والغارات تزداد كثافة، فلم يعد باستطاعتنا متابعة الدراسة، الأصوات تملأ أرجاء المكان، وتزلزل الأرض تحت الأقدام، والطائرات تحلق في السماء، أسمع في صوتها نداء، وكلما اقتربت شعرت باقتراب لحظة الموت، وأخذت بالتشهد، فإذا تلاشى الصوت علمت أنني على قيد الحياة، وبحثت في سبل النجاة، فأخرج من البناء، ولا أعرف بأي رداء، هل هو للصيف أم للشتاء.

لكن الأمر جلل، وحينها يصاب تفكيرنا بالشلل، وصارت عندنا عادة، كلما سمعنا صوت الموت يقترب، نسبقه إلى القبر أقصد إلى القبو، لعلنا منه ننجو.

وفي ذلك اليوم المشؤوم أخذت الأصوات تقترب، والأنفاس تضطرب، ولساني يلهج بذكر الله، وقلبي متعلق برحماه، فوضعت خماري، وتدثرت بدثاري، فإن صرت جثة هامدة، أكون بحجابي على إيماني شاهدة، فأموت على الإيمان، وأفوز برضا الرحمن.

ولكن لم أعد أستطع التحمل، فالوحدة قاتلة، وانتظار الموت أصعب من الموت، فكيف إذا مات الإنسان وحيدًا، فإن لم أمت بحضن أمي كما تمنت حياة، أرى أحدًا ينقل وصيتي بعد الممات، فنزلت لعند الجيران، لعلي أحظى بقليل من الأمان.

وإذا بصوت تخر له الجبال الراسيات، وكأنه صوت وقوع السماوات، زجاج النوافذ تحطم، والبيت من كثافة الغبار أظلم، شعرنا بتيار هائل، جرفنا نحو الداخل، فزاد خوفنا، وإلى الهروب دفعنا، فنزلنا إلى الأقبية، وبدأت تراودني أفكار تشاؤميّة.

هل سأرى بعد اليوم والديّ؟

هل سأخرج من تحت الركام ميّتة أم حية؟

وإذا بالصوت يبتعد ويختفي، فتهدأ نفوسنا وتنتشي، انطفأت نيران الغارات، واشتعلت نفوسنا كلما أعدنا شريط الذكريات، عادت الحياة من جديد، ولكن لم يعد الأمان، فقدنا أجمل شيء في الحياة، فقدنا السكينة والاطمئنان، وبدأت المآذن تنادي بأسماء المفقودين، ونحن نلملم جراحنا وعن هذه الدنيا غائبين.

سمعت اسمًا لطالما تردد على مسامعي، لا .. لا .. لابد أنني مخطئة، ماذا يقول؟ حياة؟؟؟

نعم إنه يقول حياة، كيف؟ ومتى؟ وأين؟

حاولت تكذيب نفسي ولكن .. لابد من الانصياع لأوامر القدر والتسليم به، هرعت لبيت أهلها لأسأل عن حالها، فربما أكون مخطئة، وإذا بالعزاء قد بدأ، تلفتُّ يمنة ويسرى، لعلي أعرف أحد الوجوه، فإذا بي أقف أمام أم حياة.

فسألتها: ماذا جرى؟ كيف حصل ذلك؟

فقالت والدموع تفيض من عينيها: ماتت حياة .. ماتت حياة .. وماتت معها بهجة الحياة، وتابعت قائلة: والله لم أكن أريد ذلك ولكن حكم القوي على الضعيف.

فسألتها باستغراب: ماذا تقصدي يا خالة؟ أي قوي؟ وأي ضعيف؟

فقالت وقد غصت بكلماتها: إنه والدها أراد أن يزوجها، قلت له مازالت صغيرة لن تتحمل أعباء الزواج، فضربني ضربًا مبرحًا، ولم أستطع بعدها أن أتكلم.

أخذتها بفستانها الأبيض لعندهم عروسًا، فأعادوها لي بكفنها ملفوفة.

في هذه الأثناء لم أنبس ببنت شفة، لم أعزيها أو أواسيها، فهذه جريمة اشترك الجميع فيها … ماذا أقول في ضحية جديدة من ضحايا الجهل والأميّة، ماذا أقول في أمراض بالمجتمع مستعصية، وهل أقول لأمها عن تلك الأمنية، فما تمنت إلا أن تموت بحضن أمها، وها هي تموت وحدها.

لم تمت بحرب وحشيّة، بل ماتت بطرحة شرقيّة، لا تعرفها إلا قلة من البلدان النامية، بلدان لا ترى في الأنثى إلا فقرًا وعارًا ولم تتخلى بعدُ عن هذه الأفكار البالية، ترى في زواج الطفلة دين وعرف ولم تتخلى بعدُ عن هذه السنن الجاهلية.

هذه هي قصة حياة التي كانت للحرب والجهل ضحيّة، هذه هي قصة حياة بل هي قصة الإنسانيّة، فمتى ستُكسر هذه القيود الاجتماعية؟ ومتى سنكف عن الاحتساء من كأس المنية؟

شارك المعلومة؛ فالدال على الخير كفاعله