قيس وليلى … قصة العشق الذي لهجت به كل لغات الأرض

قصتنا من التاريخ القديم ذلك التاريخ الذي سطر قصص كثيرة لأشخاص سمعنا عنهم من خلال حياتنا العادية أو من خلال دراستنا، والقصة التي سأرويها هي قصة العادات والتقاليد التي كانت تحكم صحراء العرب آنذاك قصة العذاب والشقاء قصة شاعرنا المعروف قيس بن الملوح ومعشوقته ليلى العامرية.

قيس وليلى

مرحلة التعارف

كان قيس وليلى من ديار بني عامر في الصحراء العربية وبالذات في عهد بني أمية، وكانا متجاوران في المنازل، وعاشقنا شاعر معروف لدى قومه، وليلى بنت مهدي الفتاة الجميلة ذات العقل الرزين والأدب الرفيع، أي أنها كانت واحدة من جميلات نساء بني عامر.

عاش العاشقان منذ صغرهما مع بعضهما البعض كأي صغيرين، وكانت حياتهما في فترة الخلافة الأموية في عهد الخليفة مروان بن الحكم وابنه عبد الملك بن مروان خلفاء بني أمية، حيث كان الصغيران يرعيان غنم أهلهما ولا يتفارقان إلا عند المساء في وقت عودتهما إلى الديار، وبحكم التقائهما مع بعضهما البعض توثقت العلاقة بين الصغيرين حتى كبرا ووصلا إلى عشق بعضهما البعض وعدم القدرة على مفارقة بعضهما أبدًا، وتعلق العاشقان ببعضهما أكثر فأكثر، ولكن دون أن يتجاوزا ما كان محللًا بالشرع ومعروفًا بالعرف والتقاليد العربية، فظلت علاقتهما بالحدود المشروعة علاقة حب طاهر عذري نظيف.

حياتهما وتعلقهما مع بعض

كان قيس شابًا فتيًا حسن الملابس يتطيب بأطيب العطور، وكان مولعًا بمحادثة ليلى منذ أن تعلق قلبه بها، حتى أنه يبقى يجالسها حتى وقت متأخر، وعند عودته إلى دياره تكون ليلته أطول ليلة لا يستطيع النوم حتى تشرق الشمس ويأتي اليوم التالي ليراها وهكذا كانت أيامه، حتى تعب تعبًا كثيرًا من قلة النوم والتفكير بها وصعب عليه أن يغمض عينيه إلى أن أنشد قائلًا:

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا                  لي الليل هزتني إليك المضاجعُ

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى                 ويجمعني والهم باللـيل جامـعُ

لقد ثبتت في القلب منك محبة                 كما ثبتت في الراحتين الأصابع

وكان من حبه لها يراها شمسًا وقمرًا لا تشبيهًا بالشمس والقمر بل هما من يشبهانها فقد قال في ذلك:

أنيري مكان البدر إن أفل البدر                   وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر

ففيك من الشمس المنيرة ضوؤها             وليس لها منك التبسم والثغر

ومن أين للشمس المنيرة بالضحى            بمكحوله العينين في طرفها فتر

وظل قيس على هذه الحالة يزورها ويداوم على ذلك ويترك كل الناس ووقع في قلب ليلى ما وقع في قلب قيس من الحب والتولع وبدأت قصة الحب تكبر وتكبر.

وكانت ليلى في بعض الأحيان تحاول أن تمتحن حب قيس لها لتعلم مالها من قلبه فمرة جاء يحدثها فأخذت تعرض عنه وتبتعد وتحاول أن تظهر له بأنها غير مهتمة به فلما رأى منها ما رأى خاف من أنها لم تعد تريده وأبدى جزعًا لذلك فلما رأت منه ذلك أقبلت عليه لتواسيه وتؤكد حبها له وأن ما كان إنما هو لتعرف مدى حبه لها وأنها على العهد فقالت في ذلك:

كلانا مظهر للناس بُغضًا                   وكُلٌ عند صاحبه مكينُ

ونظهرُ جفوة من غير قصد                وحبك في فؤادي ما يبين

فطب نفسًا وقرّ عينًا                       فإن هواك في قلبي مصونُ

فعندما سمع منها هذا القول فرح فرحًا كبيرًا وأعطته عهدًا بألا تجالس أحد سواه وألا تتركه إلا إذا أُكرهت على ذلك أو أن تموت، وأنشد يقول من شدة فرحه بها:

أحبك حبًا لو تحبين مثله                 أصابك من وجدي عليّ جنون

فيا نفس صبرًا لا تكوني لجوجة                 فما قد قضى الرحمن فهو يكون

وكان قيس يجتمع مع ليلى في كثير من الأحيان وفي احدى المرات اجتمعت به وحين جاء موعد الفراق أنشد قائلًا:

ضعفتُ عن التسليم يوم وداعها                 فودّعتها بالطرف والعين تدمعُ

وأخرست عن رد الجواب فمن رأى             محبا بدمع العين قلبا يودعُ

عليك سلام الله مني تحية ً                     إلى أن تغيب الشمس من حيث تطلعُ

وكانت ليلى تزوره أيضًا كما يزورها فلما رآها قادمة إليه قال منشدًا فرحًا:

زها جسم ليلى في الثياب كما زها           مع الغصن غصن قد تزايد عودها

ضممتك حتى قلتُ: ناري قد أنطفت           فلم تطفَ نيراني وشبّ وقودها

ألا قل لليلى قد وهبت لها دمي                وجدت بنفسي قد نعاها عزيزها

وكان حين يحين الفراق بعد اجتماعه بليلى يحزن وينشد معبرًا عن عذاب الفراق والبعد وما يحل به بعد القرب ورؤية حبيبته:

متى يشتفي منكِ الفؤاد المعذّبُ              وسهم المنايا من وصالكِ أقرَبُ

فبعدٌ وهجرٌ واشتياقٌ ورجفةٌ                     فلا أنت تدنيني ولا أنا أقرُبُ

كعصفورةٍ في كفّ طفل يزمّها                   تذوق حياض الموت والطفل يلعبُ

فلا الطفل ذو عقلٍ يرق لما بها                  ولا الطير ذو ريشٍ يطير فيذهبُ

ولي ألف وجهٍ قد عرفت مكانه                  ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهب؟

غار قيس

كان من عادة قيس بن الملوح أن يذهب إلى غار قيس في جبل توباد ويتخذه ملاذًا آمنًا حيث يجد فيه العزلة والطمأنينة من أعين الناس ويجلس في هذا الغار مدة من الزمن يبث له أشجانه وحبه لليلى، وفي إحدى المرات ترك الذهاب إلى الغار فترة لايذهب إليه ثم عاد إلى ما كان عليه ينعزل فيه فوصف من شدة حبه لليلى لقاءه مع جبل التوباد والغار الذي كان ينعزل فيه:

وأجهشت للتوباد حين رأيته                     وكبر للرحمن حين رآني

وأذرفت دمع العين لما رأيته                      ونادى بأعلى صوته ودعاني

فقلت أين الذين عهدتهم                          حواليك في خصب وطيب زمان؟

كشف قصة حب قيس وليلي

ظل قيس على حبه لليلى ولقاءه معها حتى كشف أمرهما وأحس الناس في ديار بني عامر بقصة حبهما ولم تعد ليلى قادرة على أن تتسلل كما الماضي لرؤية حبيبها فبكت بكاء طويلًا وحزن قيس من الذي وصلا إليه وأنه لا يستطيع رؤيتها أو اللقاء بها وهما في ديار واحدة وأحلّ الشقاء مكان السعادة فأنشد يقول:

أيا ليلُ بكّي لي بعينيك رحمةً                   من الوجد مما تعلمينَ وأعلمُ

أليس عجيبًا أن نكونَ ببلدةٍ                      كلانا بها يشقى ولا نتكلمُ

بكى لي يا ليلى الضمير وإنه                    ليبكي بما يلقَ الفؤادُ ويعلمُ

وذاع أمر حبهما أكثر فأكثر وحب قيس لليلى أصبح على كل لسان في ديار بني عامر وقصة حب الشابين صارت أكبر فما كان من أهلها إلا أن حجبوها عنه ومنعوه من زيارتها كما في الماضي.

صبر قيس على ما حلّ بهما أيامًا إلى أن ضاق ذرعًا وذهب إليها غير مبالي وخاصة أنه وصل إليه خبر بأنها قد اعتقدت بأنه تركها وهجرها فأنشد وهو في طريقه إليها مبررًا عدم مجيئه إليها كما هي عادته:

وقد زعمت ليلى بأني سلوتها                  وأن سواها حبه لي مكملُ

فقلت لها يا ليلى والله إنني                     لأوفي بعهدي في الجميل وافضلُ

هبي لأنني أذنبتُ ذنبًا جهلتهُ                   ولن آتيه عمدًا وذو الجهل يجهلُ

فقد تبت من ذنبي إليك فها أقبلي             ومثلي إذا ما تاب مثلك يقبلُ

وزاد على ما قال من شدة خوفه من فراقها وحبه لها:

وإن كان هذا الهجر هجر تدلل                   فقد زادني يا ليلى هذا التدللُ

أهيم بكم في كل يومٍ وليلةٍ                     جنونًا وجسمي بالسقام موكلُ

حزنهما وشقاءهما بعد أن ضيقوا على العاشقين

لقد أخذ من قيس الحب ما أخذ حتى أصبح جسمه هزيلًا سقيمًا تعبًا وعندما وصل في إحدى المرات إلى دار ليلى لم يجدها هناك فقد منعوها من رؤيته فجلس أمام ديارها وأخذ يبكي وصار يقبل التراب أمام ديارها منشدًا:

أبوس تراب رجلك يا لويلي                        ولولا ذاك لم أدعي مصابا

وما بوس التراب لحب أرضٍ                       ولكن حبّ من وطأ الترابا

واشتهر أمرهما أكثر فأكثر لحد لم يعد أهل ليلى يطيقون هذا الأمر فهذا عيب وخجل بين الناس فقرر أهلها أن يزوجوها ليتخلصوا من الفضيحة ومن حب هذا العاشق لابنتهم لأنهم في ذلك الوقت كانت من عادات العرب أنهم يمنعون زواج المحبين لدرء العار ومنع كلام الناس بالسوء على ابنتهم وأهلها رغم كل محاولات قيس وأهله ورغبتهم في أن يتزوج قيس من ليلى فقد أبى والدها ذلك.

واجتمع أهل قيس فطلبوا منه أن يتزوج بأخرى علّه ينساها وتعود له صحته التي أصبحت تتدهور أكثر وهو يرفض تمامًا، وتدخل الحساد من كل مكان ليبعدوا العاشقين عن بعضهما ويوقعوا بينهما الوقيعة، فأخبروا ليلى بأنه عزم الزواج بأخرى وأنه لم يعد يحبها فحزنت حزنًا شديدًا، وعندما حاول أن يزورها سرًا صدّته ومنعته وهو في هذا الأمر لا يعلم ما في الأمر مما فعله الحاسدون بينهما فأنشد مستغربًا هجرانها وصدودها له:

فو الله ما أدري علام هجرتني                   وأي أموري فيك يا ليلى أركبُ

أأقطع حب الوصل فالموت دونه                  أم أشرب رمقًا منكم ليس يشربُ

ومنع قيس من زيارة ليلى نهائيًا وتوعده أهلها وهددوه بالقتل حتى أن امرأة كانت تأتيه بأخبارها منعوها أيضًا، وشكى أبوها الأمر للخليفة مروان بن الحكم الذي طلب من قيس أن يترك زيارتها والتكلم معها فقد أهدر دمه، فلم ينصاع قيس للأمر وكان يحاول بين الحين والآخر التسلل حول ديارها علّه يراها ولو للمحة أو أن يسمع صوتها فشكى والدها للخليفة الذي أمر بإحضاره مع أبيه وقال له اتق الله في نفسك لا يذهب دمك هدرًا.

مرضه

من كثرة المضايقات له ومن رؤية معشوقته امتنع عن الطعام ومرض أكثر فأكثر حتى أنه لم يعد يستطيع الوقوف على قدميه فطلبوا من أبيه أن يذهب به إلى مكة وزيارة قبر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ليدعو له الله أن ينساها ويذهب عنه ماحل به من المرض والعشق الذي اخذ بقلبه وعقله، وكان ينشد وهو في الديار المقدسة:

عسى إن حججّنا واعّتمرنا وحُرمتُ                    زيارة ليلى أن يكون لنا الأجرُ

ولكن هناك ازداد الأمر سوءًا فقد سمع وهو في مشعر (منى) أحدهم ينادي من بين الخيام (يا ليلى) فخرّ قيس مغشّيًا عليه لسماع اسم ليلى فأخذوا يضعون الماء على وجهه ليصحو وأبوه عند رأسه يبكي على ماحل بولده وعندما استيقظ أنشد يقول:

وداعٍ دعا إذا نحن بالخيف من منى                     فهيّج أحزان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما                           أطار بليلي طائرًا كان في صدري

يا لقيس وما تلاقي ويا لحبّك العذري فمجرد سماع اسم ليلى تهيّجت أحزانه التي لم تفارقه منذ أن منع عن رؤية حبيبته.

وينشد حينما يرى الكعبة المشرفة داعيًا ربه أمامها:

وناديت أن يا رب أول سؤلتي                    بنفسي ليلى ثم أنت حسيبها

ويعود إلى دياره وهو مازال على حاله من المرض ويحاول أن يزور ديار ليلى من شدة شوقه لها فذهب مرة ليراها فثار قومها وصاروا يريدون الحرب لأنه نقض العهد الذي أخذه قيس على نفسه أمام الخليفة فأنشد يقول:

أمرّ على الديار ديارُ ليلى                         أقبّل ذا الجدار وذا الجدار

وما حبّ الديار شغف قلبي                      ولكن حُبّ من سكن الديار

واًصبح قيس مجنونًا بحبه وهيامه وأخذ الجميع يلقبونه بالمجنون فما كان من أهلها إلا أن يزوجوها وفعلًا زوجوها من رجل يدعى ورد بن محمد العقيلي مع أنها لا تريده ولكنها رحلت معه إلى دياره في الطائف وابتعدت عن حبيبها ومجنونها قيس، ويقال بأنه ذهب في يوم شتاء بارد إلى دار أحد كبار القوم وقد أوقد القوم النار للتدفئة وكان زوج ليلى عندهم فتجرأ قيس وأنشد يخاطبه:

بربك هل ضممت إليك ليلى             قبيل الصبح وقبّلت فاها

وهل رفّت عليك قرون ليلى              رفيف الأقحوانة في نداها

فقال له ورد: أما وقد حلفتني “فنعم والله”، فما كان من قيس المجنون إلا أن قبض بكلتا يديه على النار الموقدة ولم يتركها حتى سقط مغشيًا عليه.

نهاية الحب العذري

هناك عدة روايات للنهاية فمنهم من يروي أن قيس ذهب إلى البادية بعيدًا عن أهله نحيلًا متعبًا سقيمًا وكانت امرأة من قومه تأتي له كل يوم بالطعام وتتركه للمساء فإن عادت مساءً ولم تجد الطعام تعلم حين ذاك أنه مازال على قيد الحياة حيًا يرزق ولكن في أحد الأيام أتت ووجدت الطعام بمكانه لم يؤكل ولم ترَ قيسًا فأبلغت أهله بذلك فذهبوا يبحثون عنه فوجدوه ملقى بين الأحجار في وادي كثير الحصى وقد توفي ووجدوا أنه قد كتب بيتين من الشعر عند رأسه قائلًا:

توسد أحجار الهامة والكفر ومات                        جريح القلب مندمل الصدر

فيا ليت هذا الحب يعشق مرة فيرى            ويعرف ما يلاقي المحب من الهجر

وهذا كان في سنة 688 ميلادية،

وفي رواية أخرى يقال بأن ليلى من كثرة حبها لقيس لم تتحمل فراقه وتزويجها بآخر فرحلت عن الحياة دون أن تودع قيسًا ويقال بأنه ذهب إلى ديار أهلها وطلب أن يأخذوه إلى قبرها وعندما وصل إلى قبرها رمى نفسه على قبرها وأنشد يقول:

أيا قبر ليلى لو شهدناك أعولت           عليك نساء من فصيحٍ ومن عجم

ويا قبر ليلى أكرمن محلها                 يكن لك ما عشنا بها نعم

ويا قبر ليلى إن ليلى غريبة               بأرضك لا خل لديها ولا ابن عم

أطفأت نيران العشق والغرام بين العاشقين وتوقف العذاب والحرمان بينهما ولم يطل الزمان حتى لحق قيس بليلى معشوقته وحبه وغرامه وهيامه.

وبهذه النهاية التي تباينت فيها الأقاويل حول نهاية هذا الحب أسدل الستار عن قصة قام الزمان بصياغة أحداثها وبكل ما فيها من عشق وهيام وقرأها من في الأرض بلغاتهم المختلفة وقصة هذين العاشقين ستظل شاهدًا على جمال العشق وطهره وأي عشق وهو العشق العذري.

شارك المعلومة؛ فالدال على الخير كفاعله