قصة أصحاب الكهف – “رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا”

ذكر الله تعالى لنا في القرآن أن قصة أهل الكهف من أعظم القصص، والتي تمتلئ بالآيات الدالة على قدرة الله وعظمته، وكيف أستطاع مجموعة من الشبان التمسك بدينهم وعقيدتهم ضد الكفر والطغيان، تأخذنا القصة لنغوص في بحر أحداثها ونتعلم الكثير منها.

أحداث قصة أصحاب الكهف

كان هناك ملك يعبد الأصنام، وينظم المواكب للمعابد لزيارة تلك الأصنام وتقديم القربان لها، وكان هناك مجموعة من الفتيان في موكب الملك ومن أتباعه، قد تمردوا سرًا على عبادة الأصنام، وكانوا يؤمنون بالله وحده لا شريك له.

كانت الفتية يتقابلون سرًا في منزل أحدهم، ليعبدوا الله سبحانه وتعالي ويقيمون الصلاة، فبالرغم من أنهم شباب وليسوا شيوخًا، ومع ذلك رفضوا حياة الترف التي كانوا يعيشونها مع الكفر، وفضلوا الحياة الآخرة، ليخلد الله ذكراهم في القرآن الكريم.

ترك أهل الكهف عبادة الأصنام وعبادة الله الواحد

علم أحد سكان المدينة بأمرهم فذهب إليهم وسألهم عما يفعلون؛ فأخبروه أنهم تركوا عبادة الأصنام، وأسلموا لله تعالى، يقول الله تعالى “وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا”.

ذهب ذلك الرجل إلى الملك، وأخبره بقصة الفتية، وكيف أنهم تكبروا على الآلهة التي يعبدونها، فغضب الملك غضبًا شديدًا، وأمر أتباعه باستدعاء أولئك الفتية لمقابلته.

تهديد الملك الفتية بالتعذيب أو القتل وهروب الفتية

قابل الملك الفتية المؤمنين، وهددهم بالتعذيب والقتل إن لم يتراجعوا عما يفعلون، وأخبرهم أن ما يمنعه من قتلهم على الفور أنهم شباب صغار، لم يدركوا الأمور على حقيقتها، وسيعطيهم فرصة للتفكير.

لم تؤثر تلك التهديدات في نفوس الفتية الصغار، بل زادت من إصرارهم على الإسلام والإيمان، واتفقوا على الهروب من المدينة ليلًا.

لم يجلس الفتية في مكانهم، ولم يستسلموا للشرك، ولم يرضوا بعبادة إله دون الله عز وجل، فقد فضلوا الهروب على الجلوس في أماكنهم، فضلوا الهروب إلى كهف مظلم بدلاً من المكوث في مدينة زاهرة بالخيرات والنعم ولكن أهلها مشركين.

اغتنم الفتية فرصة عدم تواجد الملك وسفره خارج البلاد، واتفقوا على ميعاد معين يتقابلون فيه بالليل حتى يتمكنوا من الهروب دون أن يلحظ أحد من سكان المدينة شيئًا.

وعندما جاء الميعاد وتقابلوا، أخذوا يسيرون على أطراف أقدامهم حتى لا ينكشف أمرهم ويقبض أتباع الملك عليهم.

قصة الكلب الذي كان مع الفتية في الكهف

وإذا بكلب أحدهم يسير ورائهم؛ خاف الفتية أن يفضحهم الكلب بنباحه فطردوه، ليعود إلى المدينة، ولكنه أصر أن يسير ورائهم فحينما لم يجدوا فائدة من طرده تركوه خلفهم.

توجه الفتية إلى الله بالدعاء كي يرحمهم، وينجيهم من القوم الكافرين وقالوا “رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا”[1].

وسار الفتية في طريقهم، حتى وجدوا كهفًا فرأوا أن يستريحوا فيه فجلسوا، وأكلوا بعض الثمار وشربوا الماء، ثم أحسوا بالتعب من السير طوال الليل، فغفلت أعينهم وناموا في سبات عميق.

انتشار أمر هروب الفتية

في الصباح شاع أمر هروب الفتية في المدينة بأكملها، وعلم الملك بذلك فخرج في موكب له للبحث عن أولئك الفتية، الذين عصوا أمره فليعذبهم على ما فعلوه.

أخذ الملك يبحث عنهم ويتتبع آثارهم حتى وصل إلى الكهف الذي دخلوا إليه فلما رأى أن ضوء الشمس لا ينفذ بداخل الكهف أمر أتباعه بدخول الكهف لمعرفة إذا كانوا بالداخل أم لا؟

خاف أتباع الملك من دخول الكهف المظلم، واقترحوا عليه فكرة أعجبت الملك كثيرًا؛ فقد سألوه: أتريد قتلهم؟ فأجابهم بنعم، قالوا: فلتغلق عليهم ذلك الكهف بحجارة كبيرة، وبذلك سيموتون بداخله من الجوع والعطش وبالفعل فعل الملك ذلك.

رعاية الله للفتية المؤمنين

مرت الأيام والسنين والفتية ما زالوا نائمين لم يستيقظوا، وهنا تتجلى قدرة الله عز وجل ويقول في كتابه “وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ” حيث تطلع الشمس وتغيب، وهم ما زالوا نيامًا، يرعاهم الله بقدرته وجلاله.

وتتجلى قدرة الله سبحانه وتعالى، فيبقي أعينهم مفتوحة طوال تلك المدة؛ لأنها إذا بقيت مغلقة ستتأذى، كما يقلبهم الله بقدرته؛ حتى لا يصيب أجسادهم القرح والتآكل من طول مدة الاستلقاء والنوم.

رجوع أرواح الفتية لهم بعد 309 عامًا

وحان أمر الله برجوع أرواحهم إليهم؛ ليستيقظوا من نومهم بعد مرور ثلاثمائة وتسع سنوات، لما عاد إليهم وعيهم أخذوا يتساءلون يا ترى كم لبثنا في ذلك الكهف، فرأى أحدهم أنهم لبثوا ليلة، ورأى الآخر أنها أكثر من ليلة، ثم قالوا “رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ”.

شعر الفتية بالجوع الشديد، فأخرجوا قطعة نقود فضية، ثم طلبوا من أحدهم أن يخرج من الكهف؛ ليشتري لهم بعض الطعام من سوق المدينة، ولكن أوصوه بأن يمشي متخفيًا حتى لا يتعرف عليه أحد، ويستدلون على مكانهم ويقتلونهم.

حاول الفتى الخروج من الكهف؛ فوجد بقايا الحجر الذي بناه الملك فهدمه، ثم خرج وتعجب أشد العجب، عندما رأى شوارع غير الشوارع التي ألفها وبيوتًا غير البيوت التي تعود عليها، وأناسًا لم يقابلهم من قبل.

رأى اختلافًا كبيرًا في أشكال الناس، وملابسهم ومنازلهم وطرقاتهم فتساءل متعجبًا: كيف حدث كل ذلك التغيير في ليلة واحدة فقط؟!

لم يكن هو وحده متعجبًا، بل تعجب أصحاب المدينة من منظره، ومن ملابسه التي ترجع إلى أزمان ماضية، وهيئته التي تختلف عن هيئتهم كثيرًا؛ فلفت أنظار كل المارة في الشوارع، مما أوجس الخوف في قلبه أن يعلم الملك بمكانه فيقتله.

اكتشاف أمر الفتية

وعندما وصل الفتى إلى السوق، وطلب من البائع الطعام، وأخرج له القطعة النقدية، نظر إليها البائع بتعجب شديد وقال له: ما هذا؟؟ أجابه الفتى إنها قطعة نقدية ثمنًا لذلك الطعام.

أخبره البائع أنها قطعة نقدية غريبة الشكل، وغير مألوفة، ويبدو عليها أنها ترجع إلى العصور القديمة، تعجب الفتى كثيرًا وسأله كيف هذا وقد كان يتعامل بها بالأمس.

قال له البائع أنه سيأخذه إلى الشرطي، فتلك النقود قديمة جدًا ويجب تسليمها إلى الشرطة؛ خاف الفتى وتوسل للبائع أن يتركه وشأنه، ولكن البائع أبى وأصر أن يصطحب الفتى إلى الشرطي.

نظر الشرطي إلى قطعة النقود، وقال إنها ترجع إلى عصر الملك منذ 309 عام، وهي قطعة نقود نادرة جدًا، لا يمتلكها أي أحد في ذلك الزمن، وأخذ الشرطي يسأله عن أسماء أهله وجيرانه، فلما أخبره الفتى بأسمائهم قال الشرطي أنه لا وجود لتلك الأشخاص في ذلك الوقت.

الفتي يحكي قصته للملك العادل

أخذ الشرطي الفتي إلى الملك، وكان الملك في ذلك الوقت ملكًا عادلاً يختلف كثيرًا عن الملك الكافر الظالم الذي هرب منه الفتية، فلما قص عليه الفتى قصته هو وأصحابه، أصر الملك أن يذهب ويرى أصحابه ويسمع منهم قصتهم، فطلب منه الفتى أن يذهب قبله ليخبرهم، ويستعدوا للقاء الملك.

ذهب الفتى مسرعًا إلى أصحابه في الكهف، فلما تساءلوا عن الطعام قال لهم: دعكم الآن من الطعام، وأخبروني كم لبثتم في ذلك الكهف، فقالوا ليلة أو أكثر غالبًا، رد عليهم أنهم لبثوا ثلاثمائة وتسعة أعوامًا في النوم.

أخبر الفتى أصحابه بما رآه في المدينة، وكيف تغيرت، وكيف قابل الملك الجديد الذي يريد رؤيتهم، وحينما أدرك الفتية أن بلادهم لم تعد كما كانت، ولم يعد هناك الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء، حزنوا كثيرًا.

موت الفتية وموقف الملك العادل وأهل المدينة منهم

علم الفتية أن الحياة ستكون صعبة، فطلبوا من الله ورفعوا أيديهم بالدعاء أن يقبض أرواحهم، وبالفعل استجاب الله لهم وماتوا في كهفهم.

دخل الملك وموكبه على الفتية في الكهف، فوجدهم قد ماتوا وحدثت الخلافات حول قصتهم، وكيف أنهم قد ناموا كل تلك الفترة، فآمن بعض الناس أن تلك معجزة من الله وقالوا “رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ”.

ثم تشاور بعض القوم وقرروا بناء مسجد في ذلك المكان “قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا”.

ثم يشير القرآن الكريم عن عددهم، بأن بعض الناس كانوا يظنون أنهم ثلاثة ومعهم كلبهم، وآخرين يظنون أنهم كانوا أربعة ومعهم كلبهم، ليخبرنا القرآن الكريم” قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ”.

دروس تربوية من قصة أصحاب الكهف

إذا تأملنا في قصة أصحاب الكهف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن؛ فإننا سنخرج بالعديد من الدروس والتأملات التربوية، ونذكر منها:

آيات الله لا حصر لها

  • الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، لا حدود لقدرته إذا أراد شيء يقول له كن فيكون، قادر على بعث الموتى، وإحيائهم بعد الموت، وجعل الله أهل الكهف ينامون مئات السنين ثم أحياهم بأمره وأماتهم مرة أخرى بقدرته جل وعلا.
  • اللجوء إلى الله سبحانه وتعالي ينجي المؤمن ويغيثه من أصعب الكروب، فحين يناجي المؤمن ربه في الشدائد والهموم، ويسأله العون؛ لا يرد الله كف سائله، بل يؤيده الله، ويحفظه بحفظه، قال تعالى “فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً”.
  • يقص الله علينا القصص الحق في القرآن الكريم، ليس لغرض الموعظة فقط، كما ادعى بعض الناس ولكن هي قصص حقيقية لا مراء فيها ولا خيال، هي قصص حدثت بمعجزات من الله سبحانه وتعالى، فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل “إن هذا لهو القصص الحق”.
  • تتجلى قدرة الله سبحانه وتعالى ورحمته التي تسع كل شيء، حين دبر الله لأهل الكهف مبيتًا آمنًا، استمروا فيه لمئات الأعوام، كيف أن الله جعلهم في أوضاع معينة لتحفظ أجسامهم من التحلل والتآكل والأذى.
  • كيف جعل الله الشمس تميل عنهم عند شروقها، وتقرضهم عند غروبها، فيصل إليهم شعاعًا خفيفًا من الشمس يبقيهم على قيد الحياة، ولا يؤذيهم، وذلك من رحمة الله جل وعلا.

دور الشباب في تغيير الأمم

  • للشباب دور فعال في تغيير الأمم، فيضحون بحياتهم من أجل الدعوة إلى الله، ويقدمون كل غالي ونفيس في سبيل ذلك، وذلك عكس كبار السن وشيوخ الذين ذكروا في كثير من القصص، فأعماهم الضلال والكفر، وانغمسوا في الباطل، اتباعًا لتقاليد باطلة، وجدوا عليها أباءهم وأجدادهم.
  • إذا أراد شخص إقناع مجموعة من الناس بفكرة معينة، لابد أن يأتي بالدليل والبرهان على فكرته، فقوم أهل الكهف كانوا يعبدون الأصنام من دون الله افتراءات بدون دليل على عقائدهم الباطلة، قال الله تعالى “فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً”.

ماذا يجب فعله عند انتشار الفتن

عند انتشار الفتن فخير ما يفعله المؤمن، الابتعاد عن مواضع الفتن والانعزال؛ حتى لا يصاب بالتضليل وتزعزع العقائد والمبادئ، وخير مثال على ذلك في زمن المسيح الدجال لن يستطيع الناس اجتناب فتنته، إلا بالعزلة التامة عنه والابتعاد.

وكذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يخاطب عقبة بن عامر قائلًا “يا عقبة أمسك عليك لسانك، ولْيسعْك بيتُك، وابك على خطيئتك”، وكذلك فعل أهل الكهف حين انغمس قومهم في الضلال والكفر اعتزلوهم، وذهبوا إلى الكهف فنجاهم الله من الفتنة.

أمرنا الله سبحانه وتعالى بالجهر في الدعوة إليه، وعدم السكوت عن الباطل؛ فالمؤمن الحق هو من ينشر دعوة الله بين قومه وأهله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولنا في أهل الكهف القدوة الحسنة، حين قالوا لقومهم أنهم لن يتخذوا إلهًا من دون الله.

دروس في الحياة

أخذ الحذر والاحتياط والتفكير في كل خطوة بتأني قبل فعلها، حتى لا يقع ما لا يحمد عقباه، فالتأني في التفكير من سمات العبد الصالح، فمثال على ذلك أهل الكهف حين استيقظوا من نومهم وكانوا في غاية الجوع، لم يذهبوا كلهم لشراء الطعام، بل قاموا بإرسال واحد منهم فقط.

وجاءت الغاية من إرسال نفر واحد، أنه إذا كٌشف أمره سيكون من السهل الهروب والتخفي عن الأعين، كما أوصوا صاحبهم أن يكون لينًا في الحديث مع البائع، وأن يختصر في كلامه حتى لا ينكشف أمرهم.

لابد من التأمل في القصص القرآنية التي يقصها الله عز وجل، وأن نأخذ العظات والعبر منها، ولا نمر عليها مرور الكرام بحجة الاستمتاع والتسلية.

تدبر آيات القرآن

 فحين ذكر الله تعالى لنا قصة أهل الكهف، كان بعثهم وإحيائهم بعد كل تلك المدة دليل من الله على حقيقة يوم القيامة، قال تعالى: “وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها”.

هناك تدبر قرآني آخر نخرج به من قصة أهل الكهف، وهو أن التركيز في التفاصيل التي لا قيمة لها ضياع لوقت المسلم، ولابد أن يركز على المعلومات التي تقدم فائدة، ولا يكرس وقته وجهده لمعرفة أشياء لا تنفعه ولا تضره.

فمثلا عند ذكر قصة أهل الكهف، يتساءل بعض الناس: كم عدد الفتية؟ ما هي أسمائهم؟ ما سنهم الحقيقي؟ ماذا كانوا يعملون؟ وكلها أسئلة لا طائل من ورائها، فلا يجب التركيز على مثل تلك الأشياء.

تقديم مشيئة الله قبل كل شيء، مهما يكن الأمر قريب الحدوث، أمر واجب على كل مسلم، فلا يقول المؤمن أنه سيفعل شيئًا ما غدًا دون أن يسبقه بجملة “إن شاء الله”.

شارك المعلومة؛ فالدال على الخير كفاعله