حياة الإنسان رحلة، فيها الكثير من المحطات، قد يظن البعض أن نهاية الرحلة عند موت الإنسان، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، فموت الإنسان هو بداية مرحلة أخرى، تسمى عالم البرزخ .
وحياة البرزخ : هي حياة بكل معنى الكلمة، لها بداية ونهاية، فبدايتها تكون بقبض الروح ونهايتها عند قيام الساعة، ولهذه الفترة أسرارها التي لن نستطيع أن نحيط بها علمًا مهما بحثنا، بل نستطيع أن نتعرف على مجملها من خلال ما وصل إلينا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك سنذهب اليوم في رحلة إلى هذا العالم الغريب، فاصعد معي قطار الأحلام، واربط الحزام، أغمض عينيك، واترك العنان لخيالك.
بدأت الرحلة إلى عالم البرزخ
انظر هناك، هذا هو أنت، مستلقيًا على فراشك، وقد عرق منك الجبين، وكثر الأنين، فاجتمع حولك الأهل والأصدقاء مذعورين، تحاول النهوض، تحاول القيام، تعطلت عندك لغة الكلام، يحاولون استعادة نبضاتك، والتخفيف من عذاباتك، ولكن الخط قد استوى، والبصر قد علا، والدم قد جمد، والجسد قد برد، فبدأ الصراخ والعويل، والدموع من العيون تسيل.
أنت الآن في طريقك للمحطة الأولى، ماذا أخذت معك؟ هل أخذت زادًا يكفيك؟ لا، لا أقصد الطعام والشراب فأنت الآن جثة هامدة، طعامك العمل الصالح، وشرابك قوة إيمانك، فلنشاهد معًا خطواتك في المحطة الأولى.
المحطة الأولى
تبدأ هذه المحطة بتجسيد فعلي لقول رب العزة والجلال: “لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ” (ق/22).
فاليوم ترى ببصرك ما كنت تنكره سابقًا، ترى جمهرة من الملائكة على مد البصر، ملائكة بيض الوجوه، تدعى ملائكة الرحمة، وملائكة سود الوجوه تدعى ملائكة العذاب، قد تقدمهم ملك الموت.
ها هو ذا يقترب منك، يجلس فوق رأسك، ويبدأ بقبض روحك، ثم يرسلها إلى الملائكة ليصعدوا بها إلى السماء، ولكن للأسف في هذه الأثناء لن تستطيع اختيار الملائكة الذين يصعدون بروحك، عملك هو الشيء الوحيد القادر على الاختيار.
فقل لي ماذا ترى وتسمع؟
فإن سمعت صوتًا يقول: “أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ”، ورأيت ملائكة بيض الوجوه قد أحاطوا بك، وأقبلوا عليك، وقد فاح عطر الأكفان في المكان، فاعلم أنك بأمن وأمان، واعلم أن روحك ستفيض معهم مطمئنة لعند الرحمن.
وعندها تفتح لك أبواب السماء، وتناديك الملائكة بأحب الأسماء، ثم ترى أحبابك وأصحابك الذين سبقوك، فتسلم عليهم وتسألهم عن حالهم، ويسألونك عن حالك وحال من كنت عندهم.
وروحك تنتقل من سماء إلى سماء، فإذا وصلت روحك للسماء السابعة، فستسمع صوتًا يقول: “اكتبوا كتاب عبدي في عليين” ثم تعود روحك إلى جسدك في الأرض.
وأما إن سمعت صوتًا يقول: “أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ”، ورأيت ملائكة سود الوجوه، قد أحاطوا بك وأقبلوا عليك بأكفان منتنة، فاعلم أنك في خطر عظيم، وأن عذابك أليم.
واعلم أن روحك ستنزع نزعًا، وتصعد منتنة إلى السماء، والملائكة ينادونك بأقبح الأسماء، فتوصد أبواب السماء في وجهك، وتسمع صوتًا يقول: “اكتبوا كتابه في سجين”، وتطرح روحك أرضًا لتعود إلى جسدك.
وبينما روحك تطوف في السماء، جسدك يغسّل بالماء، والأكفان صارت لك رداء، فوضعوك على آلة حدباء، ثم على الأكتاف حملوك، وبموكب صغير شيعوك، وفي حفرة ضيقة وضعوك، وبالدموع ودعوك، وفي ظلمة القبر تركوك، لا يوجد معك أحد، لا مال ولا جاه ولا ولد، وهاهي روحك تعود للجسد، لتبدأ المحطة الثانية في رحلة حياة البرزخ.
المحطة الثانية
تبدأ هذه المحطة بسماع قرع نعال أهلك وهم يفارقونك، وتبدأ معها حياة جديدة، فأنت الآن روح وجسد.
روحك بين يدي الخالق قد تلازمك وقد تفارقك، وجسدك جثة هامدة تسمع وتشعر، ولكن لا حاجة لها بطعام أو شراب أو عمل.
فقد انقضى وقت الزراعة وحان وقت الحصاد، فإن زرعت شجرًا ستحصد ثمرًا، وإن زرعت شوكًا ستحصد ألمًا. ولهذا كان للمحطة بابان:
باب للصالحين (قبر الصالحين)
أول شيء تشعر به عند إغلاق الباب هو ضمّة القبر، هذه الضمّة التي ستكون للصالحين كضمة الأم الحنون لابنها، ولك بعدها موعد مع الملكين، وسيكون بينكم اجتماع مغلق لا يعلم به إلا رب المشرقين.
فجهز نفسك للسؤال، وحضر الجواب في الحال، فإذا رأيت الملكين قادمين، فاثبت ولا تخف، يقول الله تبارك وتعالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ” (إبراهيم/27)، واعلم أنك بأمن وأمان، وسيبدأ عندها الامتحان، والامتحان أربعة أسئلة:
من ربك؟ ما دينك؟ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وما علمك؟
أربعة أسئلة إن أجبت عليها اجتزت الاختبار..
وستسمع تصديقك من العلي الجبار..
وسترى عملك الصالح بأبهى حلة، وأطيب رائحة، ووجه قد استنار..
وقد جاءك بالبشرى وليريك مقعدك في دار القرار..
ويتسع قبرك ويتحول لروضة من رياض الجنة، تتنعم فيها روحك الطاهرة، إلى يوم يبعثون.
باب للطالحين (قبر الكافرين)
وأما إن جاءك شخص قبيح الشكل سيء الهيئة، فاعلم أنه عملك في الدنيا، واعلم بأنه نذير شؤم وسوء، وسيأتي بعده ملكين، عاقدين للحاجبين، فاعلم أنك بخطر شديد، وأنك ستلاقي الوعيد.
وسيبدأ عندها الامتحان، وسيحصل ما لم يكن في الحسبان، فالأسئلة بسيطة، وجوابها على رأس اللسان، لكن لسانك عبد من عباد الله وقد أمر بالكتمان، وسرعان ما ينتهي وقت الامتحان، ويتحول قبرك لحفرة مشتعلة بالنيران، إلى أن تبعث الأنام.
وهل هذه هي المحطة الأخيرة؟
أقول لك لا، ولكن قاربنا على الوصول، فمازال هناك محطة أخيرة هي منازل الأرواح، أين يستقر الحال بروحك بعد الموت؟
المحطة الثالثة
عندما تنظر إلى القبور تراها متشابهة، ولكنها من الداخل تختلف أشد الاختلاف، فتختلف منازل الأرواح باختلاف صلاح أصحابها، كما تختلف أنواع العذاب باختلاف ذنوب أصحابها، ولهذا تم تقسيم منازل الأرواح بناء على ما جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- أرواح الأنبياء: فهي في أعلى عليين.
- أرواح الشهداء: تسرح أرواح الشهداء في الجنة، وهي في أجواف الطير، إلا من كان عليه دين فتبقى روحه محبوسة عن الجنة إلى قيام الساعة.
- أرواح المؤمنين الصالحين: هي طيور في الجنة، ولكن لا تسرح فيها، مثل أرواح الشهداء، إلا أنها تلتقي بأرواح المؤمنين في الجنة، وترد السلام على من يسلم عليها، وتلتقي بأرواح الأحياء في المنام.
- أرواح المؤمنين العُصاة: تعذب بعذابات مختلفة، باختلاف الذنب:
- فالذي يختلق الأكاذيب وتصدق أكاذيبه وتنتشر، يدخل ملائكة العذاب كلوب من حديد في شدقه حتى يبلغ قفاه.
- والذي نام عن صلاة مكتوبة، وأبى العمل بالقرآن، يضرب بحجر على رأسه يشق رأسه، وكلما شجّ رأسه، عاد من جديد وضُرب أخرى.
- الزناة والزواني، يعذبون في تنور ضيق من الأعلى واسع من الأسفل، وقد أوقدت النار أسفله، كلما اتقد علا صراخهم، وحاولوا الصعود دون جدوى.
- أما آكل الربا، فعقابه أن يسبح بنهر من دم، وكلما اقترب من الشط، وضع المَلَك في فمه حجرًا.
- أرواح الكفار: فقد بينت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيرها:
- يرى في قبره مقعده من الجنة لو أنه آمن واتقى، فيتألم ألمًا نفسيًا لما يراه من النعيم الذي خسره.
- الضرب بمطرقة من حديد: هذا أول العذابات، حيث يضرب بمطرقة من حديد فيصرخ صرخة يسمعه خلق الله أجمعين عدا الثقلين.
- يضيق قبره حتى تتكسر أضلاعه.
- يفرش قبره نارًا.
- يفتح له باب إلى النار، يقول الله تبارك وتعالى: “النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ” (غافر/46)
وتعد هذه المحطة من أقسى المحطات، ففيها أنواع من العذابات، لمن كفر برب الأرض والسماوات، أو عصى الله ولم يتب قبل الممات.
والآن وصلنا.. افتح عينيك واحمد الله، احمد الله أنك مازلت على قيد الحياة، احمد الله أنك مازلت في دار العمل، احمد الله لأنك تستطيع الآن زيادة رصيدك من العمل الصالح، فسيأتي يوم تركب فيه القطار ذهاب من غير إياب، لن تستطيع بعده الرجوع، فلا تكن ممن أخبرنا عنهم رب العزة والجلال في محكم التنزيل عندما قال:
“حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ” (المؤمنون/99-100).
فهيأ نفسك واختر طريقك، فلا تعلم متى تبدأ رحلتك.