ابن بطوطة … أمير الرحالين في أرجاء العالم القديم

جاب أرجاء الماضي وعاش تفاصيله بعشق وشجون فقال “جزمتُ نفسي على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقتُ وطني مفارقة الطيور للو كور”.

ابن بطوطة أمير الرحالة العرب والعالم خلال القرن الثامن الهجري- الرابع عشر الميلادي، بدأ رحلته حاملًا في جعبته الفضول والحب لهذه التجربة، التي لم يكن يتوقع أنها ستسطر تاريخه إلى الأبد. وأنها ستصبح نافذتنا المشرقة إلى العالم القديم والزمن الماضي نرى بعينيه كل ما شاهده كلوحة مرسومة بكل صدق وإتقان.

من هو ابن بطوطة؟

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي الملقب بابن بطوطة، ولد عربيًا مسلمًا في مدينة طنجة شمالي المغرب عام 1304 ميلادي، ينتسب إلى قبيلة لواتة البربرية. ترعرع في بيئة جمعت الثقافتين الأمازيغية والإسلامية، تعلم القرآن وتفسيره، اطلع على الكثير من الديانات والثقافات خلال حياته التي اتسمت بالترحال الدائم.

ناداه أهل الشرق باسم شمس الدين بن محمد بن عبد الله ابن بطوطة، عشق أخبار البلدان وتفاصيل تاريخها وجفرافيتها فقال: كانت تراودني أطياف لأمصار شتى من وحي الكتب، بيد أن رحلة أسمى كانت هي الأقرب إلى ذهني، فكانت وجهتي في البدء صوب قبلة تهفو إليها القلوب.

ما هو سر لقبه ابن بطوطة؟

أما عن لقبه فيعود إلى عادات وتقاليد كانت منتشرة في قبيلته ذاك الوقت، حيث تنسب فيها الأسر وفقًا لاسم أمهاتهم. أي أن عائلة ابن بطوطة ترجع لاسم السيدة فاطمة التي كان يطلق عليها اسم الدلع والدلال بطة إلى أن تحول إلى بطوطة وأصبح لقب العالة بالكامل، والتي كان معظم أفرادها يعملون في القضاء وينتمون للمذهب المالكي الذي كان منتشر في شمال أفريقيا.

 كيف بدأ شيخ الرحالين رحلته؟

بدأت رحلته العظيمة عندما اتخذ قراره بأداء فريضة الحج عام 1325 كان عمره آنذاك 21عام. لم يكن أداء فريضة الحج هو المقصد الوحيد للرحلة إنما لبدء التعلم والبحث لفتح الطريق أمام أحلامه وأفكاره.

كانت بداية الرحلة شاقة وصعبة ليس بمقدور أي شخص تحملها والالتزام بالقرار الذي تم اتخاذه باستكمالها، حيث وثق الرحالة ألمه خلالها بقوله:أصابتني الحمى، فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خشية السقوط بسبب الضعف، فنصحني صاحبي بأن أستريح حتى أبرأ، فأبيت وركبت الدابة على مرض، وقلت في نفسي: إن قضى الله عز وجل بالموت، فتكون وفاتي على الطريق وأنا قاصد أرض الحجاز.

هل كانت رحلة واحدة؟

تتلخص الرحلات التي جابها رحلنا التاريخي في ثلاث رحلات أساسية جاب عبرها الأرض على مدار أعوام عديدة سنردها لكم بالتفصيل:

رحلته الأولى البداية الشاقة والممتعة

بدأت من طنجة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى دمياط ثم القاهرة، تابع سفره في النيل إلى أسوان مرورًا بالبحر الأحمر، ثم أبحر إلى جدة، عائدًا إلى القاهرة ثم دمشق عبر فلسطين، سار إلى اللاذقية ثم حلب، ومنها رافق قافلة حجاج إلى مكة، بعد ذلك اتجه إلى العراق، ثم فارس، وحج مرة ثانية، بعدها تابع من مكة إلى اليمن ثم إلى البحرين، إلى أن وصل مصر أم البلاد.

رحلته ابن بطوطة الثانية طبقت أرجاء العالم القديم

اتجه شمالًا لزيارة الشام دخولًا بآسيا الصغرى حتى بلوغ سينوبة على البحر الأحمر، عبرها وصولًا إلى جزيرة القرم، ثم زار جنوب روسيا إلى أن أنتقل إلى أرض البلغار، عائدًا إلى بلاد فارس، دخولًا بأرض الهند.

تابع رحلته إلى سيلان وإندونيسيا وكانتون في الصين، وعاد من سومطرة إلى ظفار بحرا، بعدها ارتحل برًا إلى فلسطين، عائدًا إلى بلاده مرورًا بمصر فتونس، زائرًا سردين بحرًا أثناء مروره في فاس عبورًا بمضيق جبل طارق مرورًا بالأندلس.

رحلته الثالثة حلم أفريقي قطعه السلطان

هنا تعمقت رحلته في أعماق أفريقيا، حتى واصل السير إلى مالي، عائدًا إلى بلاد الفرس، ففي هذه الرحلة توغل في تفاصيل السودان الغربي وصولًا إلى نهر النيجر قبل أن يتم استدعاؤه من قبل السلطان الذي طلب عودته إلى المغرب للبدء بتوثيق أسفاره الطويلة.

ما هو الهدف من رحلة ابن بطوطة؟

بدأ هذا الرحال العظيم رحلته و هو في مقتبل العمر تكبد عناء السفر والتنقل، ولكن حبه وشوقه إلى خوض المجهول وتمتعه بالطموح والصبر والاجتهاد، جعل من هدفه وتحدي الصعاب أمر بسيط أمام تحقيق الغاية المنشودة، التي لم تقتصر على تجوال الأرض المعمورة كافة فقط، إنما كان الهدف الأساسي هو التكوين والبحث في خلفيات الشريعة الإسلامية وزيارة أماكن وصل الإسلام ، لتبقى هذه النتائج إرثًا حيويًا يعيش مع الأجيال القادمة وكأنما يتجولون الماضي حقيقة.أسفل النموذج

بماذا كان يتميز رحالنا العظيم؟

لقب رحالنا العظيم بأبي التاريخ لدقة مشاهدته وحفظه لتفاصيل ما يرى في كل بلد وبقعة جغرافية مر بها خلال رحلته. لم تكن الغاية من ترحاله وغوص عالم التاريخ والجغرافيا هو فقط المشاهدة والوصف إنما توثيق السياسة والاقتصاد والثقافة وكل ما يخص عادات الشعوب وغرائبهم.

 فبعدما أنهى عمله ولخص مشاهداته ترك خلفه إرثًا ثقافيًا جغرافيًا فكريًا فنيًا وتاريخيًا يوضح ويؤكد أن العالم الإسلامي يجمعه الفكر الواحد والذي سيبقى الأمل في عودة وحدته المفقودة.

هل جاب العالم مشيًا على الأقدام هل دفع النقود؟

كان هناك تعاون كبير ومساعدة حقيقية من قبل الجميع لمساندته في استكمال مسيره الطويل. فكم من ملك استضافه وأكرمه، وكم من بيت فتح له أبوابه كيفما أراد. تزوج وأنجب في العديد من البلدان التي زارها فانتشر نسله وكثر.

جاب البلاد راكبًا وماشيًا برًا وبحرًا وكيفما يخطر على البال. لم يسأل قط من أين ومتى تذهب وتعود، لم يطلب منه أحد تأشيرة دخول أو جواز سفر لما كان هناك من وحدة حضارية عربية وإسلامية لا بل وأكثر.

كم من الزمن استغرقت رحلته؟

ابتدأ رحالنا جولته عندما كان عمره 21 عام ليستمر بها حوالي 30 عام، جاب بها بقاع الأرض وأصقاعها، تعرف بها على الشعوب وتاريخها وما تحمله في طيات حضارتها. ليجمع لنا كل ما شاهده في كتاب ظل وسيبقى إرثًا ثقافيًا وفكريًا يعتمده الأجيال القادمة في فهم العالم القديم بكل دقة وموثوقية.

ما هي البلدان التي زارها وما عددها؟

قام شيخ الرحالين بثلاث رحلات جاب فيها بقاع الأرض ودخل حوالي 40 أربعين بلد بدا من المغرب مرورًا بمصر السودان الشام الحجاز العراق فارس الين عمان البحرين تركستان ما وراء النهر الهند الصين بلاد التتار وأواسط إفريقيا. تعرف خلالها على ثقافات الشعوب وحضاراتهم قابل ملوكهم وأمرائهم ليدخل التاريخ بنتائجه الرائعة.

كم المسافة التي جابها ابن بطوطة؟

لم يأتي لقبه بأمير الرحالة العرب المسلمين عن عبث، فقد قدرت المسافة التي قطعها بحوالي 121 ألف كيلو متر أي ثلاثة أضعاف ما قام به الرحالة “ماركو بولو” الذي اقتصر على آسيا فقط، بينما شيخ الرحالين وصل حتى إفريقيا وأوروبا ليكون الرحال الوحيد الذي خلده التاريخ بما أنتج وأورث.

هل واجهته صعوبات خلال الترحال؟

لم تكن جميع رحلاته سعيدة وممتعة، فمنها ما كان خطيرًا ومتعبًا وصل به حتى الموت إلى أن قال: أعانني على الترحال بدنٌ قوي يتحمل المتاعب ويقاوم الأمراض بصورة تدعو إلى العجب، كنت آكل كل طعام عدا المحرّمات، لم أشكو سوء هضم إلا مرة وحيدة، كنت لا أتخيّر طعاما، بل آكل ما أجد، وربما كنت أصوم عن الطعام أياما حتى يصح بدني إذا ما ألمّ به سُقم.

فعلى الرغم من مساعدة الملوك له وتأمين مستلزمات ترحاله، إلا أنه كان يتعرض للكثير من المواقف الخطيرة التي أوصلته بعضها حبل الإعدام على يد الطغاة والظلام، ولكن كان ينجو بأعجوبة ليستكمل هدفه المنشود من جديد.

أغرب ما شاهده ابن بطوطة في رحلته

من أكثر ما كان يستوقف نظره ويشغل اهتمامه هو مقابلة الأشخاص الصالحين والعلماء، كذلك عادات الشعوب الغريبة.

فكان من أبرز المواقف التي ذكرها موقف أوقاف الأواني فقال في ذلك:”مررت يومًا ببعض أزقة دمشق فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقط من يده صحن من الفخار، فتكسر واجتمع عليه الناس فقال له رجل من بينهم: اجمع ما تكسر منه، واذهب معي لصاحب أوقاف الأواني .. فجمعه، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيد الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن، وهو أيضًا ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب!!

كما تحدث عن مشاهدته للأهرام واندهاشه بعظمتها قائلًا: هذه الأهرامات من العجائب المذكورة على مر الدهور، وهي بناء بالحجر الصُلب المنحوت متناهي السمو، مستدير متسع الأسفل، ضيق الأعلى كالشكل المخروط، ولا أبواب لها، ولا تُعلم كيفية بنائها.

كما أشاد بفضائل أهل مكة، فوصفهم قائلًا “أصحاب المكارم التامة، والأخلاق الحسنة، والإيثار للضعفاء والمنقطعين، وحسن الجوار للغرباء”.

وفي دمشق قال: تجلى لعيني سحر دمشق في ذلك الجو السائد من التسامح والتنوع في الأوقاف التي فاض ريعها لتتكفل بنفقات العاجزين عن الحج، أو الحاجين نيابة عنهم، فضلا عن أكواب زفاف العرائس، حتى السجناء جعلوا لفك رقابهم أوقافا، كما حظي عابرو السبيل بنصيبهم من هذه الأوقاف؛ ما بين ضيافة من ناحية، وتعبيد للطرق ورصفها من ناحية أخرى

من الترحال إلى التأليف

تقدم أبو التاريخ في العمر وأصبح مسنًا ولم تعد قواه تساعده على التجوال والترحال. فاستدعاه السلطان وعينه في سلك القضاء، وطلب منه توثيق كل ما يتعلق برحلته التي استمرت أكثر من 30 عام وجاب بها أكثر من 40 بلد.

فكان من أجمل ما بقي من إرث أمير الرحالين كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، الذي وصفه هو بنفسه بقوله: ولولا إلحاح من المحيطين بي، ولولا طلب سلطان بلادي أبي عفان فارس المتوكل بتدوين هذه الرحلات، لكاد الناس أن يُحرموا تفاصيل هذه المغامرة الطويلة.

لقي هذا الكتاب شهرة واسعة ليس فقط على المستوى العربي إنما على مستوى العالم، حيث تم ترجمته على العديد من اللغات الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى، بالإضافة لتقدير وثقة الباحثين العرب والأجانب لما في هذا الكتاب من دقة في وصف الشعوب حول العالم.

وفاة أبو التاريخ وشيخ الرحالين

توفي صاحب أطول أسفار في العالم بعد رحلة عظيمة جاب فيها أرجاء المعمورة، جاءته المنية عام 1369 ميلاديا عن عمر ناهز 65 عام، نتيجة إصابته بالملاريا. دفن في مدينة طنجة المغربية حيث استقر في آخر أيامه. لتتوقف الرحلة لكن لم يتوقف عطاءه من بعده، مع كل حرف كتب في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”

ويبقى السؤال: تُرى، لو أدرك ابن بطوطة عصرنا، هل كان ليتأخر لحظة في القيام برحلة إلى القمر؟

ابن بطوطة هو أحد أعلام تاريخنا الإسلامي الذي يزخر بالعلماء والمبدعين… لذا إليك: قائمة العلماء المسلمين وأشهر مؤلفاتهم

المصادر

شارك المعلومة؛ فالدال على الخير كفاعله