بر الوالدين … “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”

من أعظم صور البر والإحسان التي يمكن للمؤمن أن يُقدم عليها هو بر الوالدين. فإنه إذا كرّس المؤمن حياته بأكملها لتحقيق هذا البر، فإن ذلك سيكون أفضل من الجهاد الأكبر! وقد أكد الله على أهمية بر الوالدين، حتى جعل الأمر جزءًا من عبادته وتوحيده، وذلك لإظهار أهمية هذا الأمر وتكريمه. 

قال ابن عباس رضي الله عنه: “ما من مؤمن له أبوان فيصبح ويمسي وهو محسن إليهما إلا فتح الله له بابين من الجنة”. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “العجب كل العجب، من عاقل يعق والديه بعد قراءته سورة لقمان، وقد قرنهما الله تعالى بنفسه”.  

هذا الأمر قد أثار ارتباك وتوتر بين أولئك الذين يدّعون القيم والأخلاق في دول الغرب. لذا، قرروا تخصيص يوم واحد في السنة لرد بعض الجميل للأبوّة المهملة، بعدما أدركوا أنهم غير قادرين على تجسيد روابط الدم والنسب التي تتمتع بها الأسرة المسلمة المخلصة. 

دعونا نرى كيف يكون بر الوالدين من خلال أدلة كثيرة من القرآن والسنة النبوية والسلف الصالح، بالإضافة إلى فوائد وفضل برهما حتى بعد مماتهما، لنتعلم ونطبق بكل صدق وإخلاص البر على آبائنا، لعلنا نكسب رضاهم وبرهم قبل فوات الآوان، ونعلم أطفالنا معنى البر الحقيقي كما علمنا إياه ديننا العظيم!  

إطاعة-الوالدين

أَدِلّةُ بِرِّ الوالِدَينِ من الْقُرْآن 

“وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ “. آية (83) من سورة البقرة 

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) من سورة الإسراء 

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا”. (36) من سورة النساء 

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ“. (14) من سورة لقمان 

“وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”. من سورة الأحقاف 

“وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” من سورة العنكبوت 

“وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا” من سورة لقمان. 

أَدِلّةُ بِرّ الوالِدَينِ من السُّنةِ النَّبَويّة 

الجنة تحت أقدام الأمهات، جاء رجل إلى النبي يريد الجهاد، فأمره النبي ﷺ أن يرجع ويبر أمه، فأعاد الرجل رغبته في الجهاد، فأمره النبي أن يرجع ويبر أمه. وفي المرة الثالثة، قال له النبي: (ويحك! الزم رِجْلَهَا فثم الجنة) [ابن ماجه]. 

جاء رجل إلى النبي ﷺ فاستأذنه في الجهاد، فقال ﷺ: (أحي والداك؟). قال: نعم. قال النبي: (ففيهما فجاهد) [مسلم] 

أقبل رجل على الرسول، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله، فقال ﷺ: (فهل من والديك أحد حي؟). قال: نعم. بل كلاهما. فقال النبي ﷺ: (فتبتغي الأجر من الله؟). فقال: نعم. قال النبي محمد ﷺ: (فارجع إلى والديك، فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما) [مسلم]. 

بِرُّ الوالدين من أعظم أبواب الخير، وقد جاء ذلك في الحديث الذي سأل فيه عبد الله بن مسعود النبي قائلاً: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ : “الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا”. قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: “ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ”. قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: “الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ” 

قال النبي محمد ﷺ: (من أرضى والديه فقد أرضى الله، ومن أسخط والديه فقد أسخط الله). 

(إنِّي لا أعلمُ عملًا أقربَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن برِّ الوالدةِ). 

قال أبو الليث السمرقندي: لو لم يذكر الله تعالى في كتابه حرمة عقوق الوالدين، ولم يوص بهما، لكان يُعرف بالعقل أن خدمتهما واجبة. وقال هشام بن عروة مكتوب في الحكمة: ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه. 

بر الوالدين عند الصحابة والسلف 

قال ذو النون ثلاثة من أعلام البر: بر الوالدين بحسن الطاعة لهما ولين الجناح وبذل المال، وبر الولد بحسن التأديب لهم والدلالة على الخير، وبر جميع الناس بطلاقة الوجه وحسن المعاشرة. 

طلبت أم مسعر ليلة من مسعر ماء فقام فجاء بالكوز فصادفها وقد نامت فقام على رجليه بيده الكوز إلى أن أصبحت فسقاها. 

وعن محمد ابن المنكدر قال: بت أغمز (المراد بالغمز ما يسمى الآن بالتكبيس) رجلي أمي وبات عمي يصلي ليلته فما سرني ليلته بليلتي، ورأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل فقال من هذا؟ قال أبي قال: لا تدعه باسمه ولا تجلس قبله ولا تمش أمامه. 

قال الغزالي: وآداب الولد مع والده، أن يسمع كلامه، ويقوم بقيامه، ويمتثل أمره، ولا يمشي أمامه، ولا يرفع صوته، ويلبي دعوته، ويحرص على طلب مرضاته، ويخفض له جناحه بالصبر، ولا يمن بالبر له، ولا بالقيام بأمره، ولا ينظر إليه شزراً، ولا يقطب وجهه في وجهه. 

وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. 

وعبد الله بن عون نادته أمه من بعيد، فأجابها من بعيد، فعلى صوته صوتها -صار أرفع- فأعتق رقبتين. 

وكان حيوة بن شريح وهو من كبار العلماء يجلس في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة! فألقي الشعير للدجاج، فيقوم فيطعمهم، ثم يرجع. 

أويس القرني الذي حبسه اشتغاله بأمه وبره بها عن السفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففاتته الصحبة، لكنه كان مقيماً على طاعة أمه وبره بها، وقد احتبس معها في اليمن قائماً عليها، وهو الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير التابعين أويس).. (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم -الله عز وجل يذكره به حتى لا ينسى نعمة الله عليه- له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) فطلب منه عمر أن يستغفر له، وطلب منه الناس، فلما أحس بذلك هرب منهم، رحمه الله تعالى. 

معنى البِرِّ لغة واصطلاحًا 

البِرُّ: الصِّدق والطَّاعة والخير والفضل، وبَرَّ يَبـَــرُّ، إذا صَلَحَ. وبَرَّ في يمينه يَبَرُّ، إذا صدَّقه ولم يحنث. وبَرَّ رحمه يَبَرُّ، إذا وصله. ويقال: فلان يَبَرُّ ربَّه ويتبرَّره، أي: يطيعه. ورجل بَرٌّ بذي قرابته، وبارٌّ: من قوم بررة وأبرار، والمصدر: البِرُّ، والبَـرُّ: الصَّادق أو التقي وهو خلاف الفاجر، والبِرُّ: ضدُّ العقوق. وبَرِرْتُ والدي بالكسر، أَبَـــرُّهُ برًّا، وقد بَرَّ والده يَبَرُّه ويَبِرُّه بِرًّا… وهو بَـرٌّ به وبارٌّ.. وجمع البَرِّ الأبرار، وجمع البَارِّ البَرَرَةُ. 
معنى البِرِّ اصطلاحًا 
قال المناوي: (البِرُّ بالكسر أي: التوسُّع في فعل الخير، والفعل المرضِي، الذي هو في تزكية النَّفس… يقال: بَرَّ العبدُ ربَّه. أي: توسَّع في طاعته… وبِرُّ الوالد: التَّوسع في الإحسان إليه، وتحرِّي محابِّه، وتوقِّي مكارهِه، والرِّفقُ به، وضدُّه: العقوق. ويستعمل البِرُّ في الصِّدق؛ لكونه بعض الخير المتوسَّع فيه) 
قال القاضي المهدي: (والبِرُّ: هو الصِلة، وإسداء المعروف، والمبالغة في الإحسان). 

حقوق الوالدين 

على المسلم أن يصل رحمه. عن أسماء بنت أبي بكرٍ -رضي الله عنهما-: (قَدِمَتْ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ، في عَهْدِ قُرَيْشٍ ومُدَّتِهِمْ إذْ عَاهَدُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع ابْنِهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقُلتُ: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وهي رَاغِبَةٌ؟ أفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ). 

أن يستغفر لهما. قال محمد بن سيرين: كنا عند أبي هريرة ليلة، فقال: اللهم اغفر لأبي هريرة ولأمي ولمن أستغفر لهما، قال محمد: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة.   

قال الشافعي: لو كنت مغتاباً أحد لاغتبت أمي فإنها أحق الناس بحسناتي. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: مات أبي، فما سألت الله حولاً إلا العفو عنه. وقال ابن عباس: من نظر إلى أباه شزرا فقد عقه. 

يدعو لهما بالمغفرة، كما قال نوح عليه السلام: “رب اغفر لي ولوالدي“. 

يطيعهما في كل شيء عدا الإشراك بالله، ويدخل السعادة إلى قلبهما.    

قال الحسن: للوالدة الثلثان من البر، وللوالد الثلث. 

عقوق الوالدين 

وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذر من عقوق الوالدين ونتيجة فاعله – نسأل الله السلامة-: 

تحذيرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يعقُّ والديه، فقال: (رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ)، ورغمَ أنفه تعني هنا تمريغُ أنفه بالتُّرابِ إذلالاً له على تركه برَّ والديه. 

قال صلى الله عليه وسلم: (رضا الرَّبِّ في رضا الوالدِ وسخطُ الرَّبِّ في سخطِ الوالدِ). 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلُ الجنةَ منَّانٌ، ولا عاقٌّ، ولا مُدمِنُ خمرٍ، ولا ولدُ زِنى). 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ منه قامَتِ الرَّحِمُ، فأخَذَتْ بحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فقالَ له: مَهْ، قالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ بكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: ألا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ، قالَتْ: بَلَى يا رَبِّ، قالَ: فَذاكِ قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: “فَهلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ”). 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعَنَ اللهُ مَنْ لعَنَ والِديْهِ، ولَعنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغيرِ اللهِ، ولَعنَ اللهُ مَنْ غيَّرَ مَنارَ الأرْضِ). 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه). 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثُ دعَواتٍ مُستَجاباتٍ: دَعوَةُ المظلومِ، ودَعوةُ المسافِرِ، ودَعوةُ الوالِدِ علَى ولدِهِ). 

رُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: (ذَكَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الكَبَائِرَ، أوْ سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ فَقالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ). 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلَّا البَغيَ، وعقوقَ الوالدَينِ، أو قطيعةَ الرَّحمِ، يُعجِلُ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ المَوتِ). 

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه). 

بر الوالدين بعد موتهما 

الدعاء والاستغفار لهما عقب كل صلاة وفي أي وقت شاء. ويدخل في ذلك صلاة الجنازة كونه يصلي عليهما صلاة الجنازة. وتنفيذ وصيتهما طالما ضمن الشرع. 

عن مالك بن ربيعة أبي أسيد الساعدي: كُنّا عِند النَّبيِّ ﷺ فقال رجل: (يا رسولَ اللهِ هل بَقِيَ من بِرِّ أبَوَيَّ شيءٌ بعدَ موتِهما أبَرُّهُما قال: نَعم، خِصالٌ أربعٌ: الدعاءُ لَهما والاسْتِغفارُ لَهما، وإِنْفاذُ عهدِهِما، وإِكرامُ صدِيقِهِما، وصِلةُ الرَّحِمِ التِي لا رَحِمَ لَكَ إِلَّا من قِبَلِهِمَا). وقد جاء في الحديث الصحيح: (إنَّ أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ). 

قال تعالى على لسان نوح -عليه السلام-: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له). 

وقد ثبت في الحديث الشريف أثر دعاء واستغفار الابن لأبيه المتوفى؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ليَرفَعُ الدَّرجةَ للعبدِ الصَّالحِ في الجَنَّةِ فيقولُ يا ربِّ أنَّى لي هذه فيقولُ باستغفارِ ولدِك لك). 

وقد جاء الحث على قضاء دين الوالدين في الحديث الصحيح: (أنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَقالَتْ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقالَ: أَرَأَيْتِ لو كانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بالقَضَاءِ). 

عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- كان حريصاً على برّ أصدقاء وأهل والده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث يُروى عنه: (أنّه كان إذا خرج إلى مكةَ كان له حمارٌ يتروَّحُ عليه، إذا ملَّ ركوبَ الراحلةِ، وعمامةً يشدُّ بها رأسَه، فبينا هو يوماً على ذلك الحمارِ، إذ مرَّ به أعرابيٌّ، فقال: ألستَ ابنَ فلانِ بنِ فلانٍ؟ قال: بلى، فأعطاه الحمارَ، وقال: اركب هذا والعمامةَ، قال: اشدُدْ بها رأسَك، فقال له بعضُ أصحابِه: غفر اللهُ لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنت تروحُ عليه، وعمامة ًكنت تشدُّ بها رأسَك، فقال: إنّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: إنَّ مِن أَبَرِّ البِرِّ صلةُ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيه، بعد أن يُولِّيَ وإنَّ أباه كان صديقاً لعمرَ). 

عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: (أنَّ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهو غَائِبٌ عَنْهَا، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شيءٌ إنْ تَصَدَّقْتُ به عَنْهَا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فإنِّي أُشْهِدُكَ أنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا). 

سئل النبي ﷺ عن حق الوالدين بعد وفاتهما فقال له سائل: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد وفاتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما. 

فضل بر الوالدين 

فضل بر الوالدين هو موضوع مهم ومحوري في حياتنا. يعتبر بر الوالدين من أفضل الأعمال الصالحة والفضائل العظيمة التي ينبغي على الناس أن يسعوا إلى تحقيقها. إليك بعض فوائد وفضائل بر الوالدين: 

يعتبر بر الوالدين من العبادات المهمة في الإسلام. ففي القرآن الكريم والسنة النبوية، يوجد العديد من الآيات والأحاديث التي تشدد على فضل بر الوالدين وتعده من أسباب الرضا الإلهي والقرب من الله. 

يعد بر الوالدين من أعظم الأعمال التي يثاب عليها الإنسان المؤمن في الدنيا والآخرة. فقد ورد في الحديث النبوي الشريف أن الله قد أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل لعمل أحد أن يتقرب به إلى الله أكثر من بر الوالدين. 

يؤدي بر الوالدين إلى تعزيز السعادة والاستقرار الأسري. فعندما يتعامل الأبناء بلطف واحترام مع والديهم، ينعكس ذلك إيجابيًا على الأجواء المنزلية ويؤدي إلى تعزيز المودة والمحبة بين أفراد الأسرة. 

بالبرّ يُبارك الله -تعالى- للإنسان برزقه وعمره، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّه أنْ يُعظِمَ اللهُ رِزْقَه، وأنْ يَمُدَّ في أجَلِه، فَليَصِلْ رَحِمَه). يُذكر في العديد من القصص والتجارب الشخصية كيف أن الأشخاص الذين يحسنون معاملتهم لوالديهم يتلقون الدعم والنجاح في حياتهم. 

يعتبر بر الوالدين واجبًا على الأبناء ومظهرًا للرحمة والمحبة. وعندما يظهرون البر لوالديهم، يزيد ذلك من مغفرة الله تعالى لذنوبهم ورحمته عليهم. 

بإظهار البر والإحسان للوالدين، يرزقه الله بذرية صالحة، ويمنحه صفاتٍ تشبه صفات الأنبياء الكرام عليهم السلام. قال تعالى مادحًا يحيى عليه السلام: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا). 

يستجيب الله تعالى لدعوة الأب لابنه البار، حيث رُوي عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (ثلاثُ دَعواتٍ لا تُرَدُّ: دعوةُ الوالِدِ لِولدِهِ). 

يعتبر برّ الوالدين من السعي في سبيل الله، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وإن كان خرج يسعَى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيلِ اللهِ). 

البرّ سببٌ لمغفرة الذنوب، روى ابن عمر رضي الله عنه: (أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ قالَ هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها). 

إن فضل بر الوالدين لا يمكن تقديره بمجرد الكلمات، فهو يمتد إلى تأثيرات إيجابية في الحياة الدنيا والآخرة. ولذا، ينبغي على الناس أن يعملوا جاهدين للحفاظ على علاقة صالحة ومبنية على الاحترام والاهتمام مع والديهم، وأن يكونوا مستعدين لتقديم الدعم والعون لهم في كل الأوقات. 

صور من بر الوالدين 

لقد ضرب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم النماذج الخالدة في برهم بآبائهم وأمهاتهم ومن ذلك:  

سيدنا نوح عليه السلام، حيث ذكر لنا الله عز وجل نموذجًا رائعًا من بر نوح لوالديه حيث كان يدعو ويستغفر لهما قال تعالى على لسان نوح: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات). من سورة نوح آيه 28.  

إذا كان الوالدين على الكفر، يجب علينا التعامل معهم بالمعروف والإحسان إليهما في الحياة الدنيا. ويجب أن نظهر لهم الرحمة والاحترام. لكن علينا عدم طاعة أوامرهم إذا كانت تتعارض مع ما يرضى الله عز وجل. كما فعل سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام حيث كان يخاطب أباه بكل أدب واحترام على الرغم من أن أباه كافر إلا أنه أشفق عليه ودعاه للهداية.

قال تعالى: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) سورة مريم.  

سيدنا اسماعيل عليه السلام يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية وذلك عندما قال له أبوه: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك)، فكان رده رائعًا كما أخبر الله تعالى عنه: (افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) الصافات 102. 

سيدنا عيسى عليه السلام يأتيه الثناء العطر، والتبجيل العظيم من ربه وهو ما يزال في المهد بأنه بار بأمه، وقرن هذا بعبوديته لربه عز وجل قال تعالى: (وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا).

ومن السلف الصالح 

يروي عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قصَّة الرِّجال الثَّلاثة الذين دخلوا الغارَ فأُغلِق عليهم بواسطة صخرة كبيرة، فأقبلوا إلى الله -عز وجل- بأعمالهم الصَّالحة راجين من المولى أن يفرِّج عنهم، فكان قول أوَّلهم: (اللَّهُمَّ إنَّه كانَ لي وَالِدَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عليهم، فَإِذَا أَرَحْتُ عليهم، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُما قَبْلَ بَنِيَّ، وَأنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَومٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُما قدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كما كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بالحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِما أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُما مِن نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذلكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا منها فُرْجَةً، نَرَى منها السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ منها فُرْجَةً، فَرَأَوْا منها السَّمَاءَ). 

ورد عن مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنّه قال: (بينَما أَنا جالسٌ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، إذ جاءَه رجلٌ منَ الأنصارِ فقالَ: هل بقِيَ مِن برِّ والديَّ شيء بعدَ موتِهِما؟ قالَ: نعَم، خصالٌ أربعٌ: الصَّلاةُ عليهِما والاستغفارُ لَهُما، وإنفاذُ عَهْدِهِما بعدَ موتِهما، وإِكْرامُ صديقِهِما، وصِلةُ الرَّحمِ الَّتي لا رَحمَ لَكَ إلَّا مِن قِبَلِهِما) 

عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنّه قال: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه). 

رأى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يطوف بالكعبة حاملاً أمه على رقبته، فقال: يا ابن عمر أترى أني جزيتها؟ قال: لا، ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل الكثير. وقال بعض الحكماء: من عصا والديه فلن ير السرور من ولده. 

ختامًا…

من المؤسف حقًا أن نشهد في الآونة الأخيرة ظهور شباب وفتيات يتجاهلون حقوق والديهم ولا يرونها ضرورية. فهم يرفعون أصواتهم بشكل مستفز على أبيهم وأمهم، ويتصرفون بطرق لا تليق بالتقدير والاحترام المستحق للوالدين. وما أكثر حاجتهما إلى العطف والرعاية والبرّ عندما يكبران ويصبحا ضعيفين وقد يقتربان من عتبة القبر. 

لكنهم ينكرون حقهما ويجحدون الخدمات والمعروف الذي قدموه لهما. قد سهروا كثيرًا لينام أطفالهم، وجاعوا ليشبع صغارهم، وتعبوا ليستريح أولادهم، والبر هو الواجب تجاههما وخدمتهما بالمعروف. ومن فضل الله تعالى أن فضل بر الوالدين لا ينقطع عنهم سواء كانوا أحياء أو رحلوا عنا. 

هنيئًا لمن أطاع الله وأطاع رسوله واتبع ما أمره من بر الوالدين وطاعتهما فهما سبب في دخولنا الجنة نسأل الله أن يجعلنا من البارين لوالدينا ويجعل ذريتنا من البارين لنا. اللهم آمين. 

المصادر 

شارك المعلومة؛ فالدال على الخير كفاعله